سوف نتحدث في هذا الموضوع عن الفرق بين العمل التجاري والعمل المدني، وسنشير أيضا إلى النظريات المؤثرة في قانون التجارة المغربي.
لتحميل هذا الموضوع ومدونة التجارة المغربية سوف تجدون الروابط أسفل المقال.
الفقرة الأولى: الفرق بين العمل التجاري والعمل المدني:
يُعد التمييز بين العمل التجاري والمدني من القضايا المحورية في القانون، وقد تطورت عدة معايير لفض هذا اللبس، يمكن تصنيفها ضمن مقاربتين رئيسيتين، مقاربة اقتصادية وأخرى قانونية.
المقاربة الأولى: المعايير الاقتصادية:
تتمحور المعايير الاقتصادية حول ثلاث نظريات تُقدم كل منها منظورًا مختلفًا لتمييز العمل التجاري:
أولا: نظرية المضاربة:
يرتكز الطرح المؤيد لنظرية المضاربة على أن الرغبة في تحقيق الربح تُشكل المعيار الفاصل والحاسم بين العمل التجاري والمدني.
بناءً على هذا التصور، يُصنف العمل كنشاط تجاري إذا كان يهدف إلى تحقيق الكسب المادي، ويُعد مدنيًا إذا تم دون مقابل أو عوض.
ومثال ذلك الأنشطة التي تُمارسها الجمعيات التعاونية التي تبيع منتجاتها لأعضائها بسعر التكلفة، حيث لا تقوم على أساس الربح.
ومع أهمية هذه النظرية، إلا أنها تُظهر قصورًا في بعض الجوانب.
فبعض المهن الحرة، كالطب، المحاماة، الهندسة، والمحاسبة، تستهدف الربح بطبيعتها، لكنها لا تُدرج ضمن الأعمال التجارية بالمعنى القانوني الدقيق.
ثانيا: نظرية التداول:
تُشير نظرية التداول إلى أن المعيار المميز للعمل التجاري يكمن في حركة السلع والبضائع ضمن سلسلة التداول، من المنتج إلى المستهلك النهائي.
فالعمل التجاري وفقا لهذا المنظور ينطوي على تداول الثروات من لحظة خروجها من حوزة المنتج وصولًا إلى المستهلك.
ثالثا: نظرية الوساطة:
مضمون نظرية الوساطة يتمثل في اعتبار وجود عنصر الوساطة بين المنتج والمستهلك هو المعيار الحاسم في تصنيف النشاط.
بمعنى آخر، يُعد كل عمل ينعدم فيه هذا العنصر من الأعمال المدنية. فعلى سبيل المثال، يبيع المزارع أو المفكر إنتاجهما مباشرة دون وساطة، وبالتالي يظل نشاطهما مدنيًا على الرغم من طبيعته الإنتاجية.
المقاربة الثانية: المعايير القانونية:
في مواجهة القصور الذي اعترى النظريات ذات الأسس الاقتصادية، تم إيجاد معايير بديلة تقوم على أسس قانونية، وتبرز منها نظرية السبب ونظرية المقاولة.
أولا: نظرية السبب:
يُقصد بالسبب في هذا السياق الباعث الدافِع إلى التعاقد. فإذا كان هذا الباعث ذا طبيعة تجارية، أي الرغبة في تحقيق الربح، يُصنف العمل كنشاط تجاري. أما إذا كان الدافع وراء الالتزام مدنيًا، فإن العمل يُعتبر مدنيًا.
ثانيا: نظرية المقاولة:
تؤكد هذه النظرية على أن العمل التجاري هو ذلك الذي يُمارس في إطار مشروع أو مقاولة منظمة، بصرف النظر عن طبيعة النشاط ذاته أو غايته من تحقيق الربح. وبالتالي، فإن مفهوم المشروع أو المقاولة هو المعيار الأهم للتمييز بين العمل المدني والعمل التجاري.
تُعرف المقاولة بأنها ممارسة الأعمال بشكل منتظم قانونيًا وماديًا، وبصورة متكررة واحترافية، بهدف تحقيق الغاية المحددة للمشروع. ومن الجدير بالذكر أن القانون التجاري القديم كان يتبنى نظرية المقاولة في مادته الثانية، والتي كانت تتعلق بالأعمال الممارسة ضمن إطار مشروع تجاري أو مقاولة (مثل أعمال التصنيع، التوريد، الوكالة بالعمولة، والملاهي العمومية)، بغض النظر عن طبيعتها الأصلية.
الفقرة الثانية: النظريات المؤثرة في قانون التجارة المغربي:
يتأثر القانون التجاري المغربي الجديد، وتحديدًا مدونة التجارة، بنظريتين رئيسيتين: النظرية الشخصية والنظرية الموضوعية. لنستعرض المقصود بهما:
1-تعريف النظرية الشخصية:
تقوم هذه النظرية على فكرة أن شخص التاجر هو محور القانون التجاري. بمعنى آخر، تركز أحكام القانون التجاري على التاجر نفسه، مستبعدةً غير التاجر من نطاق تطبيقها، حتى وإن قام بأعمال تجارية. نستنتج من ذلك أن القانون التجاري وفقًا لهذه النظرية هو قانون يختص بـ "طائفة التجار" فقط.
2-تعريف النظرية الموضوعية:
على عكس النظرية الشخصية، تجعل النظرية الموضوعية العمل التجاري هو أساس تطبيق القانون ومحوره الرئيسي، وذلك دون الالتفات إلى صفة الشخص القائم به (سواء كان تاجرًا أم لا).
يظهر تأثير هذه النظرية جليًا في القانون التجاري الفرنسي الصادر عام 1807. هذا التبني كان طبيعيًا ومتوقعًا، نظرًا للقيم والمبادئ التي قامت عليها الثورة الفرنسية، مثل الحرية والمساواة بين المواطنين، والقضاء على نظام الطبقات والطوائف الحرفية.
أولا: موقف مدونة التجارة المغربية من النظريتين:
تنص المادة الأولى من مدونة التجارة على: "ينظم هذا القانون القواعد المتعلقة بالأعمال التجارية والتجار".
تُظهر هذه المادة بوضوح أن المشرع المغربي حاول التوفيق بين النظريتين والأخذ بهما معًا. تتضح هذه الفكرة بشكل أكبر عند مراجعة المادتين 6 و 7 من المدونة، حيث قام المشرع بتعداد الأعمال التجارية، وفي الوقت نفسه ركز على تحديد صفة التاجر. على سبيل المثال، تنص المادة 6 على: "تكتسب صفة التاجر بالممارسة الاعتيادية أو الاحترافية للأنشطة التالية...".
ومع ذلك، لا تزال النظرية الموضوعية حاضرة من خلال التعداد الوارد في المدونة (على سبيل المثال لا الحصر)، ومن خلال الأخذ بالأعمال التجارية الشكلية في المادة 9 من المدونة، بالإضافة إلى الأعمال التجارية المختلطة.
ثانيا: العمل التجاري بالمغرب:
لم يُعرّف المشرع المغربي العمل التجاري بشكل مباشر، ولكنه استعاض عن ذلك بـتعداد الأعمال التجارية في المواد من 6 إلى 11 من مدونة التجارة.
وتنص هذه المواد على ما يلي:
المادة 6:
مع مراعاة أحكام الباب الثاني من القسم الرابع بعده المتعلق بالشهر في السجل التجاري، تكتسب صفة تاجر بالممارسة الاعتيادية أو الاحترافية للأنشطة التالية:
1. شراء المنقولات المادية أو المعنوية بنية بيعها بذاتها أو بعد تهيئتها بهيئة أخرى أو بقصد تأجيرها؛
2. إكتراء المنقولات المادية أو المعنوية من أجل إكرائها من الباطن؛
3. شراء العقارات بنية بيعها على حالها أو بعد تغييرها؛
4. التنقيب عن المناجم والمقالع واستغلالها؛
5. النشاط الصناعي أو الحرفي؛
6. النقل؛
7. البنك والقرض والمعاملات المالية؛
8. عملية التأمين بالأقساط الثابتة؛
9. السمسرة والوكالة بالعمولة وغيرهما من أعمال الوساطة؛
10. استغلال المستودعات والمخازن العمومية؛
11. الطباعة والنشر بجميع أشكالها ودعائمها؛
12. البناء والأشغال العمومية؛
13. مكاتب ووكالات الأعمال والأسفار والإعلام والإشهار؛
14. التزويد بالمواد والخدمات؛
15. تنظيم الملاهي العمومية؛
16. البيع بالمزاد العلني؛
17. توزيع الماء والكهرباء والغاز؛
18. البريد والمواصلات؛
19. التوطين.
المادة 7:
تكتسب صفة تاجر أيضا بالممارسة الاعتيادية أو الاحترافية للأنشطة التالية:
1. كل عملية تتعلق بالسفن والطائرات وتوابعها؛
2. كل عملية ترتبط باستغلال السفن والطائرات وبالتجارة البحرية والجوية.
المادة 8:
تكتسب صفة تاجر كذلك بالممارسة الاعتيادية أو الاحترافية لكل نشاط يمكن أن يماثل الأنشطة الواردة في المادتين 6 و7.
المادة 9:
يعد عملا تجاريا بصرف النظر عن المادتين 6 و7:
– الكمبيالة؛
– السند لأمر الموقع ولو من غير تاجر، إذا ترتب في هذه الحالة عن معاملة تجارية.
المادة 10:
تعتبر تجارية كذلك الوقائع والأعمال التي يقوم بها التاجر بمناسبة تجارته ما لم يثبت خلاف ذلك.
المادة 11:
يعتبر تاجرا كل شخص اعتاد ممارسة نشاط تجاري رغم وقوعه في حالة الحظر أو السقوط أو التنافي.
الفقرة الثالثة: تحليل المواد القانونية( من 6 إلى 11 ) من مدونة التجارة:
أولا: المادة 6: أساس اكتساب صفة التاجر (القائمة الرئيسية للأنشطة):
هذه المادة هي المحور الذي يحدد معظم الأنشطة التي تؤدي إلى اكتساب صفة التاجر.
المبدأ العام:
تُكتسب صفة التاجر بـالممارسة الاعتيادية أو الاحترافية للأنشطة المذكورة.
هذا يعني أن ممارسة النشاط لمرة واحدة لا تكفي، بل يجب أن يكون هناك تكرار واستمرارية (اعتياد) أو أن تكون المهنة الأساسية للشخص (احتراف).
قائمة الأنشطة: تقدم المادة قائمة شاملة للأنشطة التي تعتبر تجارية بطبيعتها (الأعمال التجارية الأصلية أو الموضوعية).
هذه القائمة واسعة وتشمل قطاعات مختلفة:
التجارة التقليدية: شراء وبيع المنقولات والعقارات.
الخدمات: النقل، البنك، التأمين، السمسرة، الاستغلال الفندقي (المستودعات)، الإعلان، مكاتب الأعمال والأسفار.
الصناعة والإنتاج: النشاط الصناعي أو الحرفي، التنقيب عن المناجم والمقالع .
المرافق والخدمات العامة: توزيع الماء والكهرباء والغاز، البريد والمواصلات.
أنشطة متنوعة: الطباعة والنشر، البناء والأشغال العمومية، التزويد بالمواد والخدمات، تنظيم الملاهي، البيع بالمزاد العلني، التوطين.
أهمية القائمة:
هذه القائمة حاسمة لأن من يمارس أحد هذه الأنشطة بشكل اعتيادي أو احترافي يصبح تاجرًا، وبالتالي يخضع لإلتزامات التجار (مثل القيد في السجل التجاري، مسك الدفاتر التجارية، الخضوع لنظام الإفلاس).
ملاحظة حول "الشهر في السجل التجاري":
تشير المادة إلى أن القيد في السجل التجاري له أحكامه الخاصة.
هذا يعني أن صفة التاجر تُكتسب بالممارسة، وليس بالضرورة بمجرد القيد، لكن القيد يُعد شرطًا لبعض الحماية القانونية ويترتب عليه آثار مهمة.
ثانيا: المادة 7: توسيع نطاق الأعمال التجارية (السفن والطائرات):
تُكمل هذه المادة المادة 6 لتضيف نوعًا خاصًا من الأنشطة التجارية:
تركز على الأعمال المتعلقة بالسفن والطائرات واستغلالها، بالإضافة إلى التجارة البحرية والجوية.
هذا التخصيص يعكس الأهمية الاقتصادية لهذه الأنشطة وضرورة إخضاعها لأحكام القانون التجاري نظرًا لخصوصيتها.
ثالثا: المادة 8: مبدأ المرونة والتكييف (الأنشطة المماثلة):
هذه المادة تضفي مرونة على القانون، وتمنعه من الجمود:
تنص على أن أي نشاط مماثل للأنشطة المذكورة في المادتين 6 و 7 يمكن أن يؤدي إلى اكتساب صفة التاجر.
هذا يتيح للقضاء وللفقه تكييف القانون مع التطورات الاقتصادية والأنشطة الجديدة التي قد تظهر ولم تكن موجودة عند صياغة القانون، دون الحاجة لتعديل تشريعي مستمر.
مفهوم "المماثلة" يترك مجالاً للاجتهاد لتحديد ما إذا كان النشاط الجديد يحمل نفس طبيعة الأعمال التجارية الأصلية.
رابعا: المادة 9: الأعمال التجارية الشكلية (بصرف النظر عن الممارسة):
تُعرف هذه المادة ما يُسمى بـ"الأعمال التجارية الشكلية" أو "الأعمال التجارية المطلقة":
هذه الأعمال تُعد تجارية بغض النظر عن صفة القائم بها (تاجر أو غير تاجر) وبغض النظر عن سببها أو الدافع إليها.
الكمبيالة: هي ورقة تجارية دائمًا ما تُعتبر عملًا تجاريًا بحكم شكلها وطبيعتها، حتى لو حررها شخص غير تاجر.
السند لأمر: يُعد عملًا تجاريًا إذا وقعه تاجر، أو إذا وقعه غير تاجر لكنه نابع من معاملة تجارية. هذا يعني أن طبيعة السند لأمر يمكن أن تكون مدنية أو تجارية حسب مصدره أو صفة موقعه.
أهمية هذه المادة تكمن في أن مجرد القيام بهذه الأعمال (خاصة الكمبيالة) يخضع الشخص لأحكام القانون التجاري الخاصة بالأوراق التجارية.
خامسا: المادة 10: الأعمال التجارية بالتبعية (الأعمال المدنية للتاجر):
هذه المادة تحدد ما يعرف بـ"نظرية الأعمال التجارية بالتبعية":
المبدأ: الوقائع والأعمال التي يقوم بها التاجر بمناسبة تجارته تعتبر تجارية.
الغاية: تفترض أن كل تصرف يقوم به التاجر هو لخدمة نشاطه التجاري وتسهيله.
فإذا اشترى التاجر سيارة لاستخدامها في تجارته، فإن هذا الشراء يعتبر عملاً تجارياً بالتبعية، حتى لو كان شراء السيارة بحد ذاته عملاً مدنياً لغير التاجر.
قرينة قانونية: النص يضع قرينة قانونية على تجارية هذه الأعمال (يفترض أنها تجارية).
قابلية إثبات العكس: هذه القرينة قابلة لإثبات العكس ("ما لم يثبت خلاف ذلك").
أي يمكن للتاجر أن يثبت أن العمل الذي قام به لم يكن له علاقة بتجارته، بل كان لغرض مدني أو شخصي بحت.
سادسا: المادة 11: التاجر الفعلي (رغم الحظر أو السقوط أو التنافي):
هذه المادة تتناول حالة خاصة ومهمة:
تؤكد على أن صفة التاجر تُكتسب بالفعل وبالممارسة الاعتيادية، حتى لو كان الشخص يمارس التجارة في وضع غير قانوني.
حالات عدم الأهلية أو الحظر: "حالة الحظر أو السقوط أو التنافي" تشير إلى حالات يمنع فيها القانون أو تمنع مهنة معينة الشخص من ممارسة التجارة (مثل الموظف العمومي، أو الشخص الذي صدر بحقه حكم بالسقوط من الأهلية التجارية).
الهدف: رغم هذا الحظر، فإن الشخص الذي يمارس التجارة فعليًا يُعد تاجرًا في نظر القانون ويخضع للالتزامات القانونية المترتبة على ذلك (مثل الوفاء بالديون التجارية، إمكانية إشهار إفلاسه).
هذا يحمي الغير الذي يتعامل معه، ويضمن عدم تهربه من مسؤولياته بحجة أنه ممنوع من ممارسة التجارة.
هذا المبدأ يحافظ على استقرار المعاملات ويحمي المتعاملين مع هذا "التاجر الفعلي".
لتحميل مدونة التجارة المغربية المرجو الضغط هنا رابط التحميل .
لتحميل الموضوع المرجوا الضغط هنا رابط التحميل .
-----------------------
لائحة المراجع:
-مدونة التجارة المغربية.