أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

الحقوق والحريات في التيارات الفكرية المعاصرة



لتحميل الموضوع سوف تجدون الرابط أسفل المقال.

المبحث الأول: الحقوق والحريات في التيار الفردي:

نشأ هذا التيار في رحم أوروبا الغربية كثورة على الممارسات القمعية للثلاثي السلطوي المتمثل في الملكية والكنيسة والطبقة الإقطاعية.

فقد ظل المجتمع الأوروبي قرونًا تحت وطأة الاستبداد والجور والفساد، حيث ترسخ الحكم الفردي المطلق للملك، بينما استأثرت الإقطاعية بسن التشريعات والتحكم في مقاليد الاقتصاد والأراضي.

في المقابل، سعت الكنيسة إلى إضفاء مسحة دينية على هذا الواقع لتكريس الاعتقاد بأنه مشيئة إلهية، مما أدى إلى انقسام المنظومة القانونية إلى شقين: قوانين إقطاعية وتشريعات دينية كنسية.

المطلب الأول: الأسس الفكرية للتيار الفردي:

في خضم الأوضاع الأوروبية المتردية، بزغ فجر مفكرين وفلاسفة نذروا أنفسهم للبحث عن سُبل للخلاص من براثن الاستبداد والحكم الفردي والجهل الذي خيم على العقول.

هكذا، انبثق عصر التنوير والتحرر، وتبلورت نظرية العقد الاجتماعي كآلية لتقييد سلطة الحاكم وإلزامه باحترام بنود الاتفاق التعاقدي بينه وبين الشعب.

لاقت هذه الأفكار رواجًا واسعًا في الأوساط الأوروبية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، مما أثمر عن قيام الديمقراطية التقليدية التي حظيت باستحسان وتقدير شعبي للخروج من العبودية وإطلاق العنان للحريات.

وعليه، قام التيار الفردي على تأليه الفرد واعتباره النواة الأساسية للنظام السياسي، حيث لا تعد الدولة سوى أداة في خدمة المواطن، تتولى كفالة حقوقه وحرياته.

يركز هذا التيار بشكل أساسي على معالجة إشكالية الصراع بين السلطة والحرية، وابتكار آليات لتجاوز هذه المعضلة.

ويعود الفضل الأكبر في ذلك إلى نظرية العقد الاجتماعي التي نادى بها كل من جون لوك وجان جاك روسو، بالإضافة إلى المدرسة الطبيعية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وأخيرًا الديانة المسيحية التي تدعو إلى صون كرامة الإنسان واحترامه.

الفرع الأول: الفكر المسيحي:

أسهم الفكر المسيحي في نشأة التيار الفردي من خلال رفضه عبادة البشر باعتبارها ضربًا من الشرك والوثنية المستهجنة، ودعوته إلى الحرية وازدواجية السلطة.

الفرع الثاني: المدرسة الطبيعية:

شكلت مبادئ المدرسة الطبيعية أحد روافد التيار الفردي، حيث تمحورت مفاهيم هذه المدرسة حول الفرد واعتباره الركن الأساسي في الوجود الإنساني.

الفرع الثالث: نظرية العقد الاجتماعي:

في أعقاب العصور الوسطى التي هيمن عليها الحكم الملكي المطلق المستند إلى نظرية "الحق الإلهي للملوك"، برزت نظريات العقد الاجتماعي كمصدر أصيل لفلسفة التيار الفردي.

أكدت هذه النظريات على وجود اتفاق بين الحاكم والمحكوم يخضع للإرادة الجماعية والتعايش المشترك.

ومن أبرز رواد هذه المدرسة توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو، الذين اتفقوا على ضرورة وجود دولة تخضع لعقد اجتماعي.

الفقرة الأولى: توماس هوبز:

دعا هوبز إلى العقد الاجتماعي باعتباره اتفاقًا بين الحاكم والمحكوم، يتم بمقتضاه تفويض السلطة والتعبير عن الإرادة للحاكم.

في المقابل، يتنازل المحكوم عن جزء من حريته لصالح الحاكم مقابل ضمان هذا الأخير للأمن والمصالح الفردية للمحكومين وبمجرد إبرام العقد، يصبح الجميع ملزمًا ببنوده.

الفقرة الثانية: جون لوك:

أكد لوك على واجب الحاكم في احترام حقوق المحكومين وعدم التعدي عليها وفي حال إخلال الحاكم بالتزاماته أو جنوحه نحو الحكم المطلق، يحق للمحكومين مقاومته وعزله.

وعليه، قرر لوك أن الحريات والحقوق هي الغاية من السلطة السياسية، وبالتالي فهي تحد من نطاق هذه السلطة فالدولة وفقًا للوك، نشأت للدفاع عن الحقوق الطبيعية للأفراد، ولا يجوز لها انتهاك هذه الحقوق.

الفقرة الثالثة: جان جاك روسو:

يعتبر كتابه "العقد الاجتماعي" الصادر عام 1762 بمثابة إنجيل الحرية، وهو من أثمن الكتب التي نُشرت في عصر طغى فيه الظلم والاستبداد وتقييد الفكر والتعبير.

يرى روسو أن الحالة الطبيعية للإنسان هي الحرية والمساواة والاستقلال عن السلطة فالإنسان بفطرته ينزع إلى الحرية والمساواة، وأن الأمر الوحيد الذي يعكر صفو هذه الحياة هو الكوارث الطبيعية التي تتطلب التعاون بين بني البشر للتغلب عليها.

يقرر روسو أن الأفراد بموجب العقد الاجتماعي يتنازلون عن بعض حقوقهم للجماعة، ويحصلون في المقابل على حقوق وحريات تقررها لهم الجماعة التي أقاموها بإرادتهم الحرة واختيارهم.

يسمي روسو هذا الاتفاق بـ "العقد الاجتماعي"، الذي يمنح الكيان السياسي سلطة على أعضائه لتوجيه الإرادة العامة ويوضح روسو أنه لا يوجد تعارض بين سيادة الدولة وحرية الأفراد، وأن الحرية الحقيقية هي سيادة القانون الذي يمثل إرادة الأمة وتصدره الأغلبية بعد التصويت عليه.

تجلت مبادئ روسو بوضوح في إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر عن الثورة الفرنسية، وتأكدت لاحقًا في إعلانات حقوق الإنسان الإنجليزية والأمريكية.

المطلب الثاني: تطبيقات تعاليم التيار الفردي في إعلانات الحقوق والوثائق الدستورية:

قدمت الشعوب الأوروبية تضحيات جسيمة في سبيل التحرر من الحكم المطلق وانتزاع الحقوق والحريات، ليتم الانتقال بها من الإطار النظري إلى حيز التطبيق العملي، وتجسيدها في وثائق مكتوبة عُرفت باسم إعلانات الحقوق.

الفرع الأول: إعلانات الحقوق الإنجليزية:

تحتل الأعراف مكانة مرموقة في التاريخ الدستوري الإنجليزي، إلا أن هذا التاريخ تخللته وثائق دستورية مكتوبة منحت طابعًا عمليًا للحريات العامة، وأبرزها:

1-العهد الأعظم أو العهد الأكبر (Magna Carta):

صدر عام 1215 نتيجة لاستياء طبقة النبلاء من الضرائب الباهظة المفروضة عليهم لتمويل الحروب التي شنها الملك جون.

تعتبر هذه الوثيقة الأهم في تاريخ إنجلترا الدستوري، حيث تضمنت العديد من الضمانات للحرية الشخصية وتقييد سلطة الملك.

لم يأت هذا العهد استجابة لضغوط شعبية، بل لضغوط النبلاء ورجال الدين، ولذلك ركز على حقوق النبلاء أكثر من حقوق عامة الشعب، إلا أنه نقل نظام الحكم من ملكية مطلقة إلى ملكية دستورية.

2-ملتمس الحقوق (Petition of Right):

صدر عام 1628 إبان صراع البرلمان مع الملك الذي كان يعتنق نظرية الحق الإلهي للملوك كأساس لسلطته، حيث كان الملك يشرع القوانين ويفرض الضرائب دون احترام لبنود العهد الأكبر.

أدى هذا الاستبداد الملكي إلى نشوب حرب أهلية انتهت بإعدام الملك تشارلز الأول.

3-قانون الحقوق (Bill of Rights):

صدر عام 1689 وشكل قيدًا على سلطة الملك، حيث قضى على الحكم الفردي المطلق.

نص القانون على منع الملك من تعطيل القوانين أو الإعفاء من تطبيقها، أو فرض الضرائب، أو الاحتفاظ بالجيش في زمن السلم.

4-الأمر القضائي (Habeas Corpus Act):

صدر عام 1679 لمناهضة الاعتقال التعسفي غير المستند إلى سند قانوني، واعتُبر ضمانة أساسية للحريات الشخصية للمواطنين الإنجليز، حيث يُعاقب المسؤول عن أي اعتقال تعسفي.

الفرع الثاني: إعلانات الحقوق الأمريكية:

تعتبر حرب الاستقلال الأمريكية من أهم حروب التحرر في التاريخ الحديث، دفاعًا عن حرية الإنسان وحقوقه.

اندلعت ثورة مسلحة عام 1775 بقيادة جورج واشنطن، انتهت بتحرير أمريكا من النفوذ الإنجليزي وانتخابه كأول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية.

عقب ذلك أعلنت الولايات الثلاث عشرة إعلانات الحقوق التي تضمنت نصوصًا تؤكد على حقوق الأفراد السابقة على حقوق الدولة، مستمدة مبادئها من قانون الحقوق الإنجليزي وأفكار جون لوك وجان جاك روسو ومونتسكيو مؤسس نظرية فصل السلطات.

1-إعلان ولاية فرجينيا للحقوق (Virginia Declaration of Rights):

صدر عام 1776 ويُعد أول إعلان لحقوق الإنسان في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد اقتدت به باقي الولايات الأمريكية.

تضمن الإعلان العديد من الحقوق الأساسية، أهمها المساواة بين المواطنين، وحق الملكية، والاعتراف بالشعب كمصدر للسلطة، وفصل السلطات، والأمن، والمحاكمة العادلة.

2-إعلان الاستقلال الأمريكي (United States Declaration of Independence):

صدر عام 1776 وأعلن بموجبه انفصال الولايات المتحدة عن بريطانيا.

نص الإعلان على جميع الحقوق الواردة في إعلان فرجينيا، وما يميزه هو ذكره لأول مرة لعبارة "حقوق الإنسان" استهل الإعلان في ديباجته بعبارة جان جاك روسو: "إن جميع الناس ولدوا متساوين ولهم حق غير متنازع عليه في الحرية"، وهي مقولة قريبة من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا".

اعتبر الأمريكيون هذا الإعلان وثيقة لحرية مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، وأكدوا على عدم التخلي عن مبدأ الحرية مهما كلفهم ذلك من ثمن. استهل الإعلان بالفقرة التالية: "إن الباري خلق الناس متساوين ومنحهم حقوقًا لا تنتزع أبدًا كالحق في الحياة والحرية والسعي من أجل السعادة وأن ضمان هذه الحقوق رهين بتكوين حكومات تستمد سلطتها العادلة من موافقة الشعب وإذا ما وقع سوء استعمال للسلطة أو اغتصابها من لدن حكومة تبين أنها ترمي إلى الاستبداد وإهدار الحقوق المشروعة للشعب فمن حق هذا الأخير بل من واجبه إسقاط هذه الحكومة وإقامة مكانها نظامًا جديدًا كفيلاً بتأمين سعادته ومستقبله".

3-التعديلات على دستور الولايات المتحدة (Bill of Rights):

اكتفى دستور عام 1787 بتنظيم المؤسسات الفدرالية ولم يعر اهتمامًا للحقوق والحريات. لكن ابتداءً من عام 1791، تم التركيز على ضرورة حماية حقوق المواطنين، مما دفع السلطات إلى إعداد تعديلات على الدستور.

وأهم ما جاءت به تعديلات عام 1791 هي الحرية الدينية أو حرية العقيدة، وحرية التعبير والرأي والصحافة والتجمع، والأمن الشخصي، وحرية الملكية.

بلغت هذه التعديلات عشرة في مجموعها، أُضيفت إلى الدستور دفعة واحدة عام 1791، ثم تبعتها تعديلات أخرى لاحقًا ليصل عددها إلى سبعة وعشرين تعديلاً حتى الآن.

كان التصريح الأمريكي ذا طابع واقعي ولم يسعَ لتجاوز حدود الولايات المتحدة، على عكس الإعلان الفرنسي.

كان هدف رجال الثورة الأمريكيين إقناع الإنسانية بعدالة قضيتهم وكسب تعاطف الرأي العام الدولي مع أسباب قيامهم بالثورة.

وقد اقترب الإعلان الأمريكي كثيرًا من إعلان الحقوق الفرنسي من حيث التأثير، دون أن يصل إلى مستواه التأثيري ودرجة سموه بالإنسان.

الفرع الثالث: إعلانات الحقوق الفرنسية:

تُعد فرنسا مهد الثورة التي حملت لواء مبادئ الفكر الحر المتحرر، والتي اجتاحت العالم وأرغمته على تبني تعاليم حقوق الإنسان والحريات العامة والسيادة الشعبية.

فقد عاشت فرنسا كباقي دول أوروبا تحت سلطة النظام الملكي الإقطاعي في جميع جوانب الحياة السياسية ومؤسسات الحكم، حيث كان الحكم مطلقًا، وكان الملوك يرون طاعتهم واجبة وأن كلمتهم هي القانون وأنهم هم الدولة، وكان لهم كامل التصرف في المال العام والعفو ومصادرة الأراضي والأملاك والسجن دون محاكمة، حتى قال جونسون مقولته الشهيرة: "إن بلاط الملوك قبر الشعوب".

قاومت الثورة الفرنسية الانحرافات والاستبدادات، وقد قاد هذه الحركة الثورية العديد من الفلاسفة المتأثرين بحرب التحرير الأمريكية، خاصة بعد ترجمة الدساتير الأمريكية إلى اللغة الفرنسية. من بين هؤلاء المفكرين:

1-مونتسكيو:

صاحب كتاب "روح القوانين" الذي جمع فيه الكثير من أنظمة الحكم ودرس أنواعها وبين عيوبها ومحاسنها، وإليه يرجع الفضل في مبدأ فصل السلطات، وهو صاحب المقولة الشهيرة: "إذا تجمعت السلطات الثلاث في يد شخص واحد فإن كل شيء يضيع".

2-فولتير:

الذي تناول الملكية ونظام الحكم الملكي بالنقد والسخرية والتهكم.

3-روسو:

فيلسوف الحرية وصاحب كتاب "العقد الاجتماعي" الملقب بإنجيل الثورة، وهو القائل: "إن الحكومات ليست إلا ممثلة لإرادة الشعب وعليها أن تكون في خدمة الشعب ومنفذة إرادته فإذا أساءت استعمال سلطاتها وانحرفت عن واجباتها وجب عزلها وإحلال غيرها محلها".

4-ديدرو:

الذي جمع الأفكار الحديثة في موسوعته التي كان لانتشارها التأثير البالغ في تخليص الناس من الظلم وغياب الحرية والمساواة.

وبالتالي، فإن الثورة الفرنسية قد أعادت التوازن للخلل المتجسد في الوضعية المتخلفة حيث يسود الإقطاع والملك ورجال الدين والأشراف والنبلاء وتضيع حقوق المواطنين.

فنادى الثوار باحترام حقوق الإنسان وصون كرامته واحترام حريته واعتبار الدولة حارسة فقط للدفاع الوطني والأمن الداخلي والقضاء.

واستطاع الشعب الفرنسي برمته أن يضع حدًا للنظام الملكي وأقاموا الجمهورية الفرنسية عام 1792، كما قضوا على المجتمع الطبقي وما كان يسوده من تفاوت، وجاءت وثيقة حقوق الإنسان مؤكدة على حقوق الإنسان وآدميته وكرامته.

=إعلان حقوق الإنسان والمواطن:

صدر عام 1789، وتجلت أهميته في عالميته لأنه يعلن حقوقًا لا تهم المواطن فقط بل باعتباره إنسانًا يرفض كل أشكال التمييز.

ويلاحظ أن استعمال مصطلح "إعلان الحقوق" كان الغرض منه صفة الإعلانية لا الإنشائية، وأن دوره كان مجرد الاعتراف بحقوق الإنسان الملازمة للفرد والسابقة على وجود الدولة والسلطة، فمجهودهم انحصر على سرد الحقوق والتذكير بها بعد أن كانت مجهولة وتم التصويت على الإعلان من قبل الجمعية الوطنية في ظروف سريعة، فجاء على شاكلة ديباجة وسبعة عشر مادة كلها تؤكد على الحقوق الطبيعية التي يتمتع بها الأفراد، ومن ضمن هذه الحقوق: المساواة، عدم الاعتقال التعسفي، الحرية، البراءة إلى أن تثبت الإدانة، حرية الرأي والتعبير، الشعب مصدر السلطة، حق الانتخاب، حق المشاركة السياسية، حق تقلد الوظائف العمومية، حق مراقبة صرف الضرائب.

وأكد الفصل السادس عشر أن كل مجتمع لا يحمي هذه الحقوق يعتبر غير دستوري.

هكذا اهتم الإعلان الفرنسي بالحقوق الفردية دون الحقوق الجماعية والاقتصادية والاجتماعية، جاعلاً من عدم تدخل الدولة الهدف الرئيسي لحماية حقوق الأفراد، مصورًا بالتالي معالم مجتمع ليبرالي فرداني تنافسي ملائم للمجتمع الرأسمالي.

غير أن الإعلانات اللاحقة ستعمل على سد الثغرات بالنص الصريح على الحريات الجماعية والاهتمام بالحقوق الاقتصادية.

المطلب الثالث: أزمة التيار الفردي:

تعرض التيار الفردي لانتقادات حادة لأنه وقع في شراك الربح واستغلال العمال، مما أدى إلى اتساع الفجوة بين الطبقة المالكة والطبقة العاملة.

فنادى العمال بتدخل الدولة من أجل حماية حقوقهم من الاستغلال البرجوازي وتحقيق قدر من المساواة الفعلية، مما مهد الطريق لظهور أفكار اشتراكية تطالب بالعدالة الاجتماعية.

المبحث الثاني: التيار الاشتراكي:

تبين أن الحريات في النظام الليبرالي زائفة وخادعة عند تطبيقها بشكل حرفي، فالحرية المطلقة في الاقتصاد أدت إلى فوارق اجتماعية هائلة، مما جعل الحرية السياسية مجرد حبر على ورق، وتأكد عدم المساواة بين المواطنين.

فسلبية الدولة في النظام الليبرالي الحر نتج عنها أزمات اقتصادية وظهور احتكارات وطبقات اجتماعية، فكان لا بد من ظهور أفكار اشتراكية.

المطلب الأول: الفكر الإشتراكي:

مرت الأفكار الاشتراكية بمرحلتين:

المرحلة الأولى:

الاشتراكية المثالية أو الطوباوية: امتدت حتى القرن التاسع عشر، وكانت قائمة على مخاطبة الناس بأحاسيسهم وضمائرهم بهدف تحقيق مجتمع مثالي خالٍ من الظلم والطبقية، لكنها لم تحدد الوسائل الكفيلة ببلوغ هذا الهدف، فكانت عاطفية أكثر منها عملية.

وقد نادى بهذه الفكرة العديد من الفلاسفة، على سبيل المثال:

كونفوشيوس:

الذي ظهر في الصين ونظر إلى الفرد على أساس قيمته وليس على أساس الميلاد، واعترف له بإمكانية الانتقال من طبقة اجتماعية إلى أخرى.

أفلاطون:

الذي دعا في كتابه "الجمهورية" إلى الشيوعية بإقامة المدينة الفاضلة على أساس مبادئ الاشتراكية، فألغى الملكية والأسرة باعتبار أن الملكية أداة للخلاف بين الناس.

توماس مور:

في كتابه "يوتوبيا" حيث اقترح نظامًا يماثل جمهورية أفلاطون المثالية واستبدال الملكية الفردية بالملكية الجماعية، اعتبارًا بأن العدل لا يمكن تحقيقه في ظل الملكية الفردية.

المرحلة الثانية:

الاشتراكية العلمية أو الماركسية: بدأت في منتصف القرن التاسع عشر مع صدور "البيان الشيوعي" لكارل ماركس، الذي أضحى بمثابة إنجيل الحركة العمالية الماركسية.

الفرع الأول: الظروف التاريخية:

انتقلت أفكار فولتير وروسو بسرعة إلى روسيا، ورافقتها إصلاحات قام بها القيصر لتغطية الحكم المطلق، لكن انكشفت هشاشة هذه الإصلاحات مع الخسارة الكبيرة في الحرب العالمية الأولى، مما ساهم في الثورة البلشفية بزعامة فلاديمير لينين المنادية بالحقوق المتساوية والعدالة الاجتماعية والاعتراف بحقوق العمال فتطور التمرد إلى ثورة حقيقية أدت إلى سقوط القيصر.

الفرع الثاني: الثورة الروسية:

بصدور بيان حقوق الشعب العامل المستغل عام 1918، تم الإعلان عن أول حكومة حرة في روسيا بزعامة لفوف، التي قامت بمجموعة من الإصلاحات كالمساواة أمام القانون وإصدار بيان سمي "حقوق الشعب العامل المستغل" عام 1918، حيث جاء بمفهوم جديد للحريات تتدخل فيه الدولة في النشاط الفردي كوسيلة ناجحة للحد من الفوارق الاجتماعية.

وفي هذا السياق، قال لينين: "لا يمكن أن تكون حرية في مجتمع قائم على سلطة المال حيث الطبقة الكادحة في فقر وفئة طفيلية من الأغنياء".

المطلب الثاني: المفهوم الاشتراكي للحقوق والحريات:

لا يعترف واضعو "البيان الشيوعي" بالحقوق في ظل المجتمع البورجوازي، ويرون أن انتصار البروليتاريا وحده هو ما سيحقق الكرامة الإنسانية.

الفرع الأول: التمييز بين الحريات الشكلية والحريات الواقعية:

ميز ماركس بين الحريات الشكلية التي أصبحت تُعرف بالحريات الكلاسيكية، والحريات الواقعية وهي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي لا يمكن أن توفرها سوى الدولة.

يرى ماركس أن أصحاب رؤوس الأموال في ظل الحرية الشكلية يتحكمون في المال وبالتالي يتحكمون في الصحافة والإعلام والحكومات، إذن هذه الحرية صورية وشكلية ومزيفة.

الفرع الثاني: انتقاد إعلانات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر:

يرى ماركس أن إعلانات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ما هي إلا أدوات في يد البرجوازية استخدمتها للقضاء على الإقطاعية ثم استخدمتها بعد الثورات للقضاء على حقوق العمال، وبالتالي فإن هذه الإعلانات ما هي إلا نفاق سياسي.

ويطرح أسئلة من قبيل: "ما فائدة حرية السكن لشخص لا يملك سكنًا؟ ما قيمة حرية الصحافة إذا كانت الصحف بيد رؤوس الأموال؟ ما قيمة الأمن لشخص يموت جوعًا؟".

وهكذا رفض ماركس مفهوم الحريات في العالم الغربي وطرح بديلاً تمثل في حريات في ظل مجتمع اشتراكي تنعدم فيه الطبقات وتشرف فيه الدولة على حقوق الإنسان، وقال بـ "أولوية الجماعة على الفرد ثم التضحية بحقوق الفرد من أجل حقوق الجماعة، الدولة هي تدخلية ترتكز على الهيمنة السياسية عن طريق الحزب الواحد ثم الهيمنة الاقتصادية والممارسة من خلال المخططات الاقتصادية".

وهكذا ظهرت حقوق جديدة لم تكن في إعلانات الحقوق الفرنسية والإنجليزية والأمريكية من قبيل الحق في العمل والحق في الراحة والحق في التأمين والحق في التعليم.

والحقوق والواجبات في المذهب الاشتراكي وجهان لعملة واحدة، فمن يطالب بالحق في الطعام والكساء عليه واجبات العمل، ومن يطالب بالحرية عليه أن يحترم حقوق الآخرين.   

المطلب الثالث: أزمة التيار الاشتراكي:

تركت النظرية الماركسية أثرًا بالغًا في تاريخ الإنسانية ولعبت دورًا كبيرًا في تطور الفكر والسياسة في العصر الحديث، واستطاعت الثورة الاشتراكية في روسيا أن تطيح بالحكم الفردي المتمثل في القيصر وتؤسس دولة اشتراكية قوية وأصبحت قوة عظمى عالميًا قبل أن تعصف بها رياح التغيير في عام 1991، مما أدى إلى إعادة النظر في الكثير من مبادئ الاشتراكية.

وتجلت أزمة التيار الاشتراكي في جانبين رئيسيين: حماية حقوق وحريات الفرد، وظهور مذهب التدخل الجزئي.

الفرع الأول: على مستوى حماية حقوق وحريات الأفراد:

حققت الاشتراكية بعض العدل في العمل وتوزيع الثروات، لكن الفرد المسكين حوصر من كل جانب، فالسلطة والمال والإعلام والثورة والثقافة تركزت كلها بيد الدولة، وهذه الدولة يسيرها بشر، فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة.

وهكذا أصبح الفرد مجردًا من حريته الفردية باسم حماية حقوق الطبقة العاملة، فتم قمع الحريات الفردية وحرية التعبير وحرية الصحافة وحرية التنقل باسم المصلحة العامة والوحدة الحزبية، وأصبح الحزب الواحد هو الآمر والناهي وأصبح القادة يتمتعون بسلطات مطلقة مما أدى إلى ظهور أنظمة دكتاتورية باسم الاشتراكية.

الفرع الثاني: على مستوى ظهور مذهب التدخل الجزئي:

نتيجة لأزمة التيار الفردي الذي أهمل الجانب الاجتماعي وأزمة التيار الاشتراكي الذي قمع الحريات الفردية، ظهرت مذاهب وسطى تحاول الجمع بين إيجابيات المذهبين وتلافي سلبياتهما.

ومن أهم هذه المذاهب مذهب التدخل الجزئي الذي يرى ضرورة تدخل  الدولة في بعض المجالات الاقتصادية والاجتماعية لضمان حد أدنى من العدالة الاجتماعية وحماية الفئات الضعيفة مع الحفاظ على الحريات الفردية الأساسية.

وقد تجسدت هذه الأفكار في دول الرفاهية في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية.

خاتمة:

إن دراسة نشأة وتطور الحقوق والحريات العامة تكشف عن مسيرة طويلة من النضال البشري ضد الظلم والاستبداد.

فمن الحضارات القديمة التي لم تعرف سوى حقوق النخبة، مرورًا بالديانات السماوية التي أرست مبادئ الكرامة والمساواة، وصولًا إلى التيارات الفردية والاشتراكية المعاصرة التي قدمت تصورات مختلفة حول علاقة الفرد بالدولة وحدود الحريات.

لقد شكلت هذه التراكمات الفكرية والسياسية الأساس الذي قامت عليه الإعلانات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، والتي تسعى إلى تحقيق عالم يتمتع فيه كل إنسان بحقوقه وحرياته الأساسية دون تمييز.

المرجو الضغط على هذا الرابط لتحميل الموضوع  رابط التحميل .

-------------------------

لائحة المراجع:

-محاضرات في حقوق الإنسان والحريات العامة للأستاذ عمارتي محمد.

-محاضرات في حقوق الإنسان والحريات العامة للأستاذ عبد الحق عزوزي.

تعليقات